شَيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ: الفارق بين (لفظ الأمر) و(صيغة الأمر)
لم يلاحظ العلماء، الأوائل منهم والمتأخرون، إلاّ قليلاً منهم، الفارق بين (لفظ الأمر) و(صيغة الأمر) في الاستعمال، وبالتالي في المعنى الذي يدلّ عليه كل واحد منهما؛ ما أوقعهم في الاختلافات الكثيرة بينهم في الموضوع. ولو أنهم فطنوا لهذا التفريق، لتقاربت الآراء واستقام الفهم. وحتى هذا القليل، من العلماء، الذي فرّق بينهما، لم يبنِ على تفريقه أياً من بحوثه.
إن (لفظ الأمر) هو اللفظ الموضوع أصلاً، في اللغة العربية للدلالة على معنى الأمر؛ لذلك يمكن تعريفه بأنه القول الطالب للفعل على وجه الاستعلاء، والصادر من من جهة هي أعلى من جهة المأمور، ولها صلاحية إصدار الأمر. ويتبين ذلك من واقع استعماله. فالناظر في (لفظ الأمر) يرى أنه قد اشتق منه لفظ (الأمير) و(ولي الأمر) و(الآمر)... وهذه الألفاظ يظهر فيها الاستعلاء في الكلام وعلو مرتبة من يصدر منه الأمر، والصلاحية في إصدار الأمر. كذلك يظهر في لفظ (المأمور) دنو المرتبة بالنسبة إلى الآمر. من هنا لا يمكن تسمية الطلب من الأدنى إلى الأعلى أمراً، وكذلك من النظير إلى نظيره، في العلو أو الحطّة. وإذا حدث واستعلى الأدنى أو النظير فأظهر علوّه وترفّعه باستعمال (لفظ الأمر) فإنه ينسب إلى الوقاحة أو سوء الأدب أو الجنون...
وإنه، إذا كان (لفظ الأمر) يفيد هذا المعنى الذي دلّ عليه الاستعمال؛ فهل إن (صيغة الأمر) تحمل المعنى نفسه؟ أو أنها تفترق عنه؟
إن واقع استعمال (صيغة الأمر) يدل على أن هناك فارقاً بينهما، إذ إن صيغة الأمر لا تشترط علوّاً ولا استعلاءً ولا صلاحيةً. فهي بحسب واقعها تدل فقط على طلب الفعل. فمثلاً عندما يأمر العالم تلميذه أن يعطيه الكتاب ويقول له: (آمرك أن تعطيني الكتاب) فإن هذا يختلف عن قوله (أعطني الكتاب) ففي المثل الأول نرى في طلب الفعل وضوح الاستعلاء والعلو والصلاحية لوجود (لفظ الأمر). أما في المثل الثاني فإن طلب الفعل موجود، ولكن الاستعلاء والعلو والصلاحية تدل عليها قرينة الحال أو قرينة اللفظ، وليس مجرد (صيغة الأمر)؛ لأنه يصح أن يقول التلميذ للعالم (أعطني الكتاب) ولا يصح أن يقول له (آمرك أن تعطيني الكتاب). ومن هنا كان الاستعلاء والعلو والصلاحية شروطاً لا يخلّ بها في (لفظ الأمر) بينما هي في الصيغة، فإن هذه الشروط قد تكون موجودةً، وقد لا تكون. من هنا وجب التفريق بين معنى (لفظ الأمر) وبين معنى "صيغة الأمر".
عند استعمال (صيغة الأمر) نرى أن التعبير يكون أكثر حريةً في الاستعمال؛ لأن الصيغة قد تتضمن الاستعلاء والعلو والصلاحية فيكون معناها معنى (لفظ الأمر) وقد لا تتضمن فتفترق عنه. وكمثال أوضح على ما نقول، فإننا نرى أن العبد يصح له أن يطلب من خالقه بـ (صيغة الأمر) فيقول مثلاً: (رب ارزقني) بينما لا يصح له أن يطلب من خالقه بـ (لفظ الأمر) فيقول: (رب إني آمرك أن ترزقني). من هنا يصح القول: (إن المدير قد أمر المعلم بالتزام النظام، والمعلم قد أمر التلميذ بالتزام الحضور، والأمير يأمر والرعية تنفذ، والضابط يأمر والجندي يأتمر) ولا يصح العكس.
إن هذا التفريق بين استعمال (لفظ الأمر) و(صيغة الأمر) لم نجده عند العلماء المتقدمين. كل ما شاهدناه إشارة عند بعضهم لم تلامس جوهر الموضوع. فالرازي في معرض رده على من عرّف الأمر بأنه (قول القائل لمن هو دونه (إفعل) أو ما يقوم مقامه) رفض تحديد ماهية الأمر بالصيغة للفارق بينهما حيث قال: (إن المطلوب تحديد ماهية الأمر - من حيث إنه أمر - وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات. فإن التركي قد يأمر وينهى، وما ذكروه لا يتناول إلا الألفاظ العربية). ويقصد الرازي أن مدلول الأمر موجود في كل اللغات، أما صيغة (إفعل) أو ما يقوم مقامها، فخاصة باللغة العربية. وهي اصطلاح اصطلح عليه أهل اللغة العربية للدلالة على معنى الأمر. ولكن واقع استعمالها يدل على أن معناها ليس مرتبطاً حصراً بما اصطلح علماء النحو على تسميته بـ (صيغة الأمر). فقد ترد (صيغة الأمر) بمعنى الأمر. وقد ترد بغير معناه. وقد استعملها العرب في معانٍ كثيرة، ولم يسمّها العرب بهذا الاسم، ولكن علماء النحو هم الذين سمّوها. وقد يكون مبعث هذه التسمية هو أنهم لما وجدوا أن أكثر استعمالات هذه الصيغة هو في طلب الفعل على وجه الاستعلاء والعلو والصلاحية أي في الأمر، وأنها تحمل معناه نفسه، اصطلحوا على تسميتها بـ (صيغة الأمر). فالإيجاب والندب والإرشاد والتهديد، والامتنان، والتسخير، والتعجيز والإهانة، والاحتقار... كلها وجوه تستعمل لها (صيغة الأمر). وكلها فيها معنى الأمر؛ لذلك غلب استعمال (صيغة الأمر) أو ما يقوم مقامها، على الأمر. ولكن هذا الاصطلاح هو لإطلاق هذا الاسم على هذه الصيغة، لا لحصر معناه في الأمر. فإذا أردنا أن نتبين معناها فلا بد أن نفهمها فهماً لغوياً بحسب دلالة اللغة، بحسب استعمال العرب لهذه الصيغة. فالاصطلاح لا يفسّر بحسب دلالته اللغوية، بل بحسب تواضع أهل الفن على اصطلاحاتهم. فإذا اصطلحوا على تسمية صيغة (إفعل) أو ما يقوم مقامها بـ (صيغة الأمر) فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يُحمل الاصطلاح على مدلوله اللغوي، بل يُحمل على مدلوله الاصطلاحي عند من اصطلحوا عليه فالاصطلاح كما ذكر الجرجاني في (التعريفات): (إخراج الشيء عن معنىً لغوي إلى معنىً آخر لبيان المراد). فإذا اصطلح علماء النحو والصرف مثلاً على أن جمع المذكر السالم هو كل مفرد انتهى بواو ونون مضموم ما قبلهما في حالة الرفع، وياء ونون مكسور ما قبلهما في حالتي الجر والنصب، وحددوا الألفاظ التي يمكن جمعها جمع مذكر سالماً؛ فلا يلزم أن يكون مدلوله مذكراً خالصاً سالماً من الإناث. فلفظ (المعلمون) في جملة (حضر المعلمون) ليس خاصاً بجمع الذكور، بل هو شامل للإناث أيضاً. فهو يسمّى جمع مذكر سالماً في علم النحو والصرف فقط، ولا يفيد المعنى اللغوي على وجه التدقيق.
وكذلك الفعل الماضي هو الذي حدث في زمن مضى. لكن صيغة الفعل الماضي قد تفيد معنى الاستقبال كقولك (رحم الله فلاناً). ومع هذا يبقى اعتبار فعل (رحم) فعلاً ماضياً في اصطلاح النحويين. وقل مثل ذلك في الفاعل. فهو اصطلاح نحوي وليس لغوياً. فعندما نقول: (جاء فلان) فإن (فلان) هو الذي قام بالفعل. أما عندما نقول (مات فلان) فإن (فلان) فاعل في اصطلاح النحويين بينما هو مفعول به وليس فاعلاً من الناحية اللغوية إذ وقع عليه فعل الموت... كذلك هي الحال بالنسبة إلى (صيغة الأمر) فإنها من حيث الاستعمال، استعملت في الأمر وفي غيره، من غير أن يحصر استعمالها بمدلول تسميتها، ومن غير أن يمنع ذلك من تسميتها في علم النحو بـ (صيغة الأمر) .